فلسطين- صراع القيم الإنسانية في عالم مُستقطب ومُتَشَظٍّ.

المؤلف: هشام جعفر11.19.2025
فلسطين- صراع القيم الإنسانية في عالم مُستقطب ومُتَشَظٍّ.

في مقال يحمل دلالات عميقة، نُشر لكاتب العمود المرموق في صحيفة "نيويورك تايمز"، توماس فريدمان، تحت عنوان "لماذا أوكرانيا وغزة أكبر مما نعتقد؟"، سعى الكاتب إلى تقديم تحليل معمق لأهم صراعين يشهدُهما العالم في الوقت الراهن. هذا التحليل، كغيره من التفسيرات الشمولية، قد يبدو اختزاليًا ومبسطًا في هذا العصر الذي يتسم بالتعقيد والتشتت. إلا أن أهميته تكمن في جانبين أساسيين:

  • أولًا: يمثل إحدى النوافذ التي نطل منها على فهم العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
  • ثانيًا: لقد تسرب هذا التحليل بالفعل إلى بعض صناع القرار والنُخب المثقفة في عالمنا العربي، ويُستخدم في حشد الدعم والتعبئة للآراء السياسية والفكرية والإعلامية، مما قد ينطوي على تبعات مستقبلية وخيمة.

مع ذلك، يظل هذا التصور قاصرًا عن استيعاب اهتمامات الشعوب وتطلعاتها، وكأنه يذكرنا بمقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". إنه ينظر إلى العالم وكأنه فراغ لا يضم شعوبًا متنوعة ذات آمال ورغبات متباينة، وقيم سامية تسعى إلى تحقيقها.

يقول أحد الخبراء في الشأن الإيراني: "الأولوية القصوى لإيران هي إيران نفسها، ويجب ألا نغفل عن هذا أبدًا. إيران لن تحرك قواتها إلا إذا تعرضت لتهديد مباشر."

يقول السيد فريدمان: "ثمة طرق عديدة لتحليل أكبر صراعين يشغلان العالم اليوم، ولكن خلاصتي تكمن في أن أوكرانيا تتوق إلى الانضمام إلى الغرب، بينما تسعى إسرائيل إلى الاندماج في الشرق العربي. روسيا، مدعومة بإيران، تحاول عرقلة المسعى الأول، في حين تحاول إيران وحماس إجهاض المسعى الثاني."

يضع فريدمان هذه المقولة في سياق استراتيجي أوسع نطاقًا لإضفاء قوة عليها، فيقول: "إنها تعكس صراعًا جيوسياسيًا ضخمًا بين شبكتين متعارضتين من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية، تتنافسان على قيمهما ومصالحهما التي ستحدد ملامح عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك في أعقاب حقبة السلام الأميركي/ العولمة المستقرة نسبيًا التي بشر بها سقوط جدار برلين."

ينتقل فريدمان للحديث عن منطقتنا والصراع الذي يدور رحاه فيها الآن ليصوره، كما يقول، على أنه صراع بين "شبكة المقاومة"، التي تكرس جهودها للحفاظ على الأنظمة المغلقة والاستبدادية، حيث الماضي يطغى على المستقبل. وعلى الجانب الآخر، توجد "شبكة الشمول"، التي تسعى إلى صياغة أنظمة أكثر انفتاحًا وترابطًا وتعددية، حيث المستقبل يمحو الماضي". ويستطرد قائلًا: "من سينتصر في الصراعات بين هاتين الشبكتين سيحدد إلى حد كبير الطابع السائد في حقبة ما بعد الحرب الباردة."

أميركا، بطبيعة الحال، هي قائدة شبكة الإدماج، ولكن موقع الصين بين هاتين الشبكتين بالغ الأهمية. لذا، يحرص فريدمان على تحديد دورها، فيرى أن "الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ تتحرك بين الشبكتين، جنبًا إلى جنب مع ما يسمى بالجنوب العالمي. قلوبهم، وفي كثير من الأحيان دفاتر جيوبهم، مع المقاومين، ولكن رؤوسهم مع الاندماجيين".

ولكن ما هو الفرق الجوهري بين شبكتي المقاومة والشمول أو الإدماج؟ الأولى، بحسب فريدمان، تقوم على القتال وتوحيد ساحات المقاومة، وتنطلق من معاداة إسرائيل والغرب بقيادة الولايات المتحدة.

أما شبكة الشمول، فتركز على "نسج الأسواق العالمية والإقليمية معًا، بدلًا من جبهات القتال، ومؤتمرات الأعمال، والمؤسسات الإخبارية، والنخب، وصناديق التحوط، وحاضنات التكنولوجيا، وطرق التجارة الرئيسية.

ويضيف: "إنها تتجاوز الحدود التقليدية، وتخلق شبكة من الاعتماد الاقتصادي والتكنولوجي المتبادل الذي لديه القدرة على إعادة تعريف هياكل السلطة وخلق نماذج جديدة للاستقرار الإقليمي".

لماذا الحرب على غزة مهمة؟

هذا هو المشهد الذي يرسمه لنا فريدمان، مدعومًا بشبكاته وعلاقاته ومصالحه. ولكن، دعونا نجمع بعض اللقطات الأخرى لإكمال الصورة المعقدة:

اللقطة الأولى

أصدرت ناميبيا بيانًا تدعم فيه الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والتي تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وتضمن البيان انتقادات لاذعة لقرار ألمانيا التدخل دفاعًا عن إسرائيل.

يرى العديد من الدول، فيما يسمى بالجنوب العالمي، نفاقًا واضحًا في إدانة أوروبا والولايات المتحدة للاحتلال غير القانوني في أوكرانيا، بينما تستمران في دعم إسرائيل بقوة رغم ارتفاع عدد القتلى في غزة، وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

رفعت جنوب أفريقيا دعوى الإبادة الجماعية، في حين عارضتها الولايات المتحدة بشكل قاطع، الأمر الذي أدى إلى تقويض مصداقية الأخيرة بين الأفارقة، وتحطيم فكرة أن واشنطن تدعم نظامًا قائمًا على القواعد.

أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أنها وثقت جريمة استخدام التجويع كسلاح حرب في غزة خلال الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع. وفي تقريرها العالمي السنوي، سلطت المنظمة غير الحكومية الضوء على "المعايير المزدوجة" للحكومات التي التزمت الصمت إزاء "الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الإنساني الدولي في غزة.

اللقطة الثانية

جمعت اتفاقيات التطبيع المسماة "أبراهام" بين أحد أكبر مصدري برامج التجسس في العالم وبين الدول التي تسيء استخدام الأسلحة السيبرانية وتقنيات المراقبة بشكل متزايد.

من المرجح أن تؤدي هذه المغامرة المشتركة في مجال الأمن السيبراني إلى موجة جديدة من القمع العابر للحدود القائم على التكنولوجيا باسم الأمن القومي.

بعض الدول كانت عميلة لمجموعة NSO Group، شركة القرصنة الإسرائيلية، لسنوات عديدة واستخدمت برنامج التجسس Pegasus لاختراق هواتف وصفحات الصحفيين والناشطين والمعارضين السياسيين في الداخل والخارج.

عمل التطبيع مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين على توسيع السيطرة الاستبدادية على المستوى الإقليمي، من خلال إضفاء الطابع الرسمي على قنوات التعاون العسكري والاستخباراتي السرية.

اللقطة الثالثة

في استطلاع حديث أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والذي شمل 8000 عربي في 16 دولة، صرح 92% من المشاركين بأن القضية الفلسطينية هي قضية تهم جميع العرب.

وقال ما يقرب من 90% من المشاركين إنهم يعتبرون هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي نفذته حماس "عملية مقاومة مشروعة" أو "عملية مقاومة مشروعة شابها بعض الأخطاء".

ورفض 89% من المشاركين الاعتراف بإسرائيل، وهي أعلى نسبة في تاريخ استطلاعات المركز. وقال 13% فقط من العرب الذين شملهم الاستطلاع إنهم يعتقدون أن السلام مع إسرائيل لا يزال ممكنًا.

ما الذي تعنيه هذه اللقطات الثلاث؟

أولًا: التعقيد والتركيب في مقابل الثنائيات التبسيطية المتعارضة

فتأييد الرأي العام العربي للقضية الفلسطينية لا يعني بالضرورة مساندة جميع مواقف ما يسمى بمحور المقاومة، كما يظهر في سوريا والعراق واليمن، ولا يعني تطلع شعوب المنطقة للعيش الكريم، كما يعبر محور الشمول في بعض سياساته، عدم الانحياز للقيم الأساسية، كما يتضح في الموقف من فلسطين.

يقول أحد خبراء الشأن الإيراني: "الأولوية الأولى لإيران هي إيران، ويجب ألا ننسى ذلك أبدًا. إيران لن تحشد قواتها إلا إذا تعرضت لضربة مباشرة"، ويتابع: "من المهم عدم المبالغة في الترويج لمكانة إيران في المنطقة أو استثماراتها في محور المقاومة".

إن تماسك المحور ودوره الإقليمي ليس مجرد إملاءات إيرانية، بل هو مرتبط ببعضه البعض من خلال الكراهية المشتركة للاستعمار الأميركي والإسرائيلي، وهي كراهية تمتد إلى الرأي العام العربي، كما يظهر في بيانات المؤشر العربي.

لا تعني هذه الكراهية المشتركة الموافقة على سياسات إيران وحلفائها في سوريا والعراق ولبنان، ولا يعني منع الملاحة في البحر الأحمر من قبل الحوثيين نصرة للفلسطينيين تأييدًا لمواقفهم في حرب اليمن.

نحن نعيش في عالم انتقائي. ففي حين يميل الزعماء السياسيون إلى النظر إلى عالم اليوم من خلال عدسة الأنظمة الأيديولوجية والسياسية المتنافسة (الفسطاطَين)، حيث تكون مع الغرب أو ضده، مع الديمقراطية أو ضدها، مع العالم الحر أو ضده، مع محور المقاومة أو محور الاستيعاب والشمول …، تؤكد نتائج استطلاع للرأي العام حديثة أن الناس في مختلف أنحاء العالم يفضلون بدلًا من ذلك الترتيبات الانتقائية، حيث يمكنهم وتستطيع حكوماتهم أن تختار بشكل عملي شركاءها اعتمادًا على القضية المطروحة.

لقد دخلنا عالمًا انتقائيًا، حيث يمكنك المزج والتوفيق بين شركائك حول قضايا مختلفة، بدلًا من الاشتراك في قائمة محددة من الولاء لجانب واحد أو الطرف الآخر.

إن العمل السياسي لن يكون فاعلًا إذا تمّ تأطيره في ثنائيات متعارضة؛ ثنائية القطب: من ليس معنا فهو ضدنا.

ثانيًا: هل الصراع بين المحورين برغم مساحات التداخل والمصالح المشتركة بينهما، هو صراع حول القيم أم أساسه اختلاف المصالح؟

أليس جوهر الشبكتين يقوم على الاستبداد، والأسواق المندمجة تؤدي إلى سوء التوزيع وعدم المساواة في الدخول والثروات والفرص؟. حتى اتفاقيات التطبيع الأخيرة بُنيت ركائزها على تحالف الرأسماليات والشركات الكبرى، وكانت على حساب المواطنين العاديين في الخليج وإسرائيل.

لقد استطاعت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في أنحاء العالم الربط بشكل مبدع وقوي بين همومها الذاتية، وفي أحيان محلية، وبين القضية الفلسطينية. سئل أحد المتظاهرين في الغرب عن سبب خروجه، فأجاب: "خرجنا لأنفسنا، ولاسترداد ذاتنا الإنسانية."

إن الرأي العام في مختلف أنحاء المنطقة والجنوب العالمي، بل وحتى الغرب، ينظر على نحو متزايد إلى الصراع باعتباره نتيجة لاحتلال دام عقودًا من الزمن، وليس ردًا على الإرهاب الإسلامي، كما يصوره فريدمان.

إن تكوين فريق المحامين في جنوب أفريقيا يقول كل شيء، فهو فريق متعدد الأعراق، يضم ذكورًا وإناثًا، وأيرلنديين وبريطانيين وجنوب أفريقيين، ولم يكن هناك فلسطيني رسمي معهم في المجموعة، ولا عربي واحد. ومع ذلك، وبعد يوم واحد من انتهاء جلسة الاستماع، اندلعت مظاهرات حاشدة في 45 دولة ليس من بينها أي من الدول العربية.

هل هو تطلع أو بحث عن قيم إنسانية مشتركة قد يتوزع عليها العالم في المستقبل؟ ربما.

تعود فلسطين إلى الظهور كقضية عالمية محورية، تمامًا كما كانت الحال في الكفاح ضدّ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وللمفارقة، فإن العرب والمسلمين، شعوبًا وحكومات، هم أقل المساهمين فيها. إن العلاقة بين النضال من أجل الحقوق الفلسطينية والمعركة الداخلية في بلدان المنطقة من أجل الديمقراطية والتوزيع العادل للثروات والدخول والفرص ربما تتعزّز في المستقبل.

إن الموقف الشعبي العربي يدفع الفلسطينيون ثمنَه باهظًا، حيث تحرم الأنظمة شعوبَها من الحرية وتفرط في قمعهم، كما يدفعون ثمنه من خلال الإنهاك الذي يتعرضون له بحكم سياسات نيوليبرالية متوحشة.

إن فريدمان وأمثاله لا يفهمون العلاقة المعقدة بين الشعوب العربية وبين قضية فلسطين. فهي لاتزال قضيتهم المركزية وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. هي تعبير عن بحثهم الدؤوب عن كرامتهم في الداخل، وفي الإقليم وفي العالم من حولهم. إن صعود القضية الفلسطينية يؤدي إلى عزل إسرائيل والولايات المتحدة وتزايد الانتقادات العالمية للاستعمار الاستيطاني والاحتلال والفصل العنصري.

تكتسب هذه الأفكار زخمًا واهتمامًا متجددًا، يضاف إليها حقوق السكان الأصليين والعدالة العرقية والبيئية والتوزيعية…إلخ. والمثير في الأمر أننا لم نعد بإزاء غرب ولا شرق ولا محور مقاومة ومحور شمول، وإنما توزيع للقوى وفق المصالح على هذه المناطق الجغرافية المتباينة، وتباين في تموضعها حسب كل قضية، فيما أطلقت عليه تشظّي الاستقطابات.

ثالثًا: البحث عن روح العالم

لقد بشّرت الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة بنظام دولي راسخ يقوم على القواعد، ويتعزّز بوجود عدد من المؤسسات الدولية التي تم إنشاؤها. ولكن النظام الدولي الآن يعاني من الفوضى والتشتت، ومع ذلك، ومع اشتداد الحرب على الفلسطينيين، تجلى بوضوح أن حكومة الولايات المتحدة تتخلى عن القواعد والقيم التي يفترض أن تمثلها المؤسسات الدولية.

لقد أفرز الاهتمام العالمي المتزايد بقضية فلسطين محورين جديدين:

  • المحور الأول: يضم عددًا كبيرًا من الدول وعددًا وافرًا من الفاعلين من غير الدول، وينحاز إلى قيم إنسانية مشتركة نبيلة.
  • المحور الثاني: يضم حزمة من الدول وقوى فاعلة من غير الدول، ويعتقد أن هذه القيم هي حق أصيل لفئة أو عرق أو أتباع دين معين دون غيرهم.

سأل فريدمان وزير الخارجية الأميركي في منتدى دافوس الذي انعقد الشهر الماضي (يناير/كانون الأول) عما إذا كانت حياة المسلمين والمسيحيين أقل قيمة من حياة اليهود، فأجاب بلينكن بصوت يختنق بالعاطفة: "لا، أعتقد بالنسبة لي، وبالنسبة للكثيرين منا، فما نراه كل يوم في غزة أمر مؤلم. إن المعاناة التي نراها بين الرجال والنساء والأطفال الأبرياء تفطر قلبي". ثم طرح السؤال الجوهري: "ما الذي يجب فعله؟". والحق يقال أن بلينكن يستحق أن يُرشح لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل على المسرح الدولي.

إن المجتمع الدولي بحاجة ماسة إلى بناء تقاليد عالمية للعمل الإنساني، ويجب عليه أن يُقر بالقول والفعل بأن حياة البشر جميعًا متساوية في القيمة، وأن قتل المدنيين أمر غير مقبول على الإطلاق، بصرف النظر عن مكان وقوعه.

يقول فريدمان في مقال آخر له: "إذا تأملت في الركائز الثلاث التي أدت إلى استقرار العالم منذ أن أصبحت صحفيًا في عام 1978، وهي: أميركا القوية الملتزمة بحماية النظام العالمي الليبرالي بمساعدة مؤسسات صحية متعددة الأطراف مثل حلف شمال الأطلسي، والصين التي تنمو باطراد لتدعم الاقتصاد العالمي، والحدود المستقرة في الغالب في أوروبا والعالم النامي، فقد اهتزت هذه الركائز الثلاث بسبب القرارات الكبيرة التي اتخذها لاعبون كبار على مدى العقد الماضي".

وأقول بدوري: إن العالم لن يستقر إلا باستحضار روحه الحقيقية التي تقوم على أساس أن التكريم الإلهي لبني آدم يشمل الجميع ولا يُستثنَى منه أحدٌ.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة